الحمد لله رب العالمين ،والصلاة والسلام على خير المرسلين ، وبعد : انتهيت بفضل الله تعالى من أدلة القرآن حول الحجاب ، وانتقلت إلى الأدلة من أحاديث النبى صلى الله عليه وسلم ،ووصلت الى الحديث الحادى والعشرين ، وهو حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما :قبرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم – يعنى ميتا- فلما فرغنا، انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وانصرفنا معه ،فلما حاذى بابه ،وقف ، فإذا نحن بامرأة مقبلة، قال : أظنه عرفها ، فلما ذهبت ،إذا هى فاطمة عليها السلام ،فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم :ما أخرجك يا فاطمة من بيتك ؟ قالت : أتيت يارسول الله أهل هذا البيت ،فرحمت إليهم ميتهم أو عزيتهم به ،فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم :فلعلك بلغت الكدى ( المقابر) قالت معاذ الله وقد سمعتك تذكر فيها ما تذكر.قال لو بلغت معهم الكدى ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك (سنن أبى داوود والنسائى ومسند أحمد والحاكم وغيرهم ) والحديث صححه الحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبى .
وقد بينت فى الحلقة السابقة ضعف الحديث وأن مداره على ربيعة بن سيف المعافرى وقد تفرد برواية الحديث ،وحاله لايحتمل التفرد . قال الشيخ التويجرى – مستدلا من الحديث- ولما لم ينكر النبى صلى الله عليه وسلم عليها تغطية وجهها عن الرجال الأجانب ،دل ذلك على أن الاحتجاب كان مشروعا لهن .(الصارم المشهور ص90).
قلت : الحديث ضعيف كما بينت فى الحلقة السابقة . ولو صح فإن الاستدلال على وجوب النقاب أراه بعيدا ،وغاية ما يستدل به مشروعية النقاب وليس وجوبه ،ومشروعية النقاب ليست محلا للخلاف بين القائلين بوجوبه والقائلين باستحبابه . يقول الشيخ الألبانى :أورده -أي الحديث (الشيخ التويجرى ) مستدلا به على تستر النساء فى زمنه صلى الله عليه وسلم ،وليس هذا موضع خلاف ، لو فرض أنه نص فى ستر الوجه لأنه مشروع ، ولكن لايدل على الوجوب ، هذا لو صح وليس كذلك ( انظر الرد المفحم ١/١٠٨) .
وذكرت أن متن الحديث فيه نكارة لهذا الوعيد الشديد بعدم دخولها الجنة لو زارت المقابر. وقد لجأ بعض أهل العلم إلى تأويله ، كما قال أبو حاتم -ابن حبان – قوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة :لو بلغت معهم الكدى ما رأيت الجنة . يريد ما رأيت الجنة العالية التى يدخلها من لم يرتكب ما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه ، لأن فاطمة علمت النهى قبل ذلك ، والجنة هى جنات كثيرة لاجنة واحدة ، والمشرك لايدخل جنة من الجنان أصلا لاعالية ولا سافلة ولا ما بينهما ( انظر التعليقات الحسان ٥/١٣٤) .
(فوائد : 1.زيارة النساء للمقابر :اختلفت أقوال أهل العلم فى هذه المسألة على أقوال بحسب الأدلة التى وردت ، فيرى الجمهور جواز الزيارة، ومن أدلتهم أن عائشة رضى الله عنها سألت النبى صلى الله عليه وسلم فقالت : كيف أقول يا رسول الله -تعنى فى زيارة القبور ، قال : قولى السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين ، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون (مسلم ). وهذا كان فى أخريات حياة النبى صلى الله عليه وسلم ،لما جاءه جبريل عليه السلام وقال له :إن الله يأمرك أن تأتى أهل البقيع فتستغفر لهم ….
ومن أدلتهم حديث أنس رضى الله عنه : مر النبى صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكى عند قبر فقال اتقى الله واصبرى…(البخارى ).
والاستدلال من الحديث الأول :أن أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها لما سألت النبى صلى الله عليه وسلم عن ماذا تقول عند زيارة القبور ، فأجابها النبى صلى الله عليه وسلم ،ولم يذكر لها عدم جواز زيارة المقابر ،ولو كان لايجوز لبين لها النبى صلى الله عليه وسلم ، لأنه -كما هو مقرر- لايجوز للنبى صلى الله عليه وسلم تأخير البيان عن وقته .
أما الحديث الثانى ، فالنبى صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليها زيارتها للقبر ، وإنما أمرها بالصبر، واستدل الحافظ ابن حجر بهذا الحديث على جواز زيارة النساء للمقابر ، فقال : واختلف فى النساء – أى زيارتهن للمقابر -فقيل دخلن فى عموم الأذن وهو قول الأكثر ، ومحله إذا ما أمنت الفتنة ، ويؤيده الجواز حديث الباب – المرأة التى تبكى عند القبر -وموضع الدلالة من أنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر على المرأة قعودها عند القبر ، وتقريره حجة ( فتح البارى ٣/١٤٨).
ويؤيد القول بالجواز أن عبد الله ابن أبي مليكة سأل ام المؤمنين عائشة : من أين أتيت يا أم المؤمنين ؟ قالت : من عند قبر أخى عبدالرحمن . قال لها : ألم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور ؟ قالت : نعم ، قد نهى ثم رخص لنا فيها ( الحاكم وغيره وصححه ووافقه الذهبى والبوصيرى والألبانى ) .
يقول الحافظ ابن حجر : وممن حمل الإذن على عمومه للرجال والنساء عائشة – وذكر الحديث – ( انظر فتح البارى ٣/١٤٩).
2-اتباع النساء للجنائز : الجمهور على أن اتباع النساء للجنائز على الكراهة وليس التحريم لحديث أم عطية رضى الله عنها : نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا ( متفق عليه ) وذكر الحافظ ابن حجر رواية عن الثوري بلفظ : نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفيه رد على من قال لاحجة فى هذا الحديث لأنه لم يسم الناهى فيه ، لما رواه الشيخان وغيرهما أن كل ما ورد بهذه الصيغة كان مرفوعا ، وهو الأصح عند غيرهما من المحدثين ….ولم يعزم علينا : أى ولم يؤكد علينا فى المنع كما أكد علينا فى غيره من المنهيات ، فكأنها قالت : كره لنا اتباع الجنائز من غير تحريم ، وقال القرطبى : ظاهر سياق أم عطية أن النهى نهى تنزيه ، وبه قال جمهور أهل العلم ، ومال مالك إلى الجواز …. ثم ذكر حديثا عن أبى هريرة رضى الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فى جنازة فرأى عمر رضى الله عنه امرأة فصاح بها ، فقال دعها يا عمر … الحديث . قال وأخرجه ابن ماجة والنسائى من هذا الوجه ، ومن طريق أخرى … ورجاله ثقات ( انظر فتح البار ى ٣/١٤٥) وهذا الحديث ضعفه الألبانى فى سنن ابن ماجه ح ١٥٨٧ وغيره .
الحديث الثانى والعشرين : عن أسامة بن زيد أن أباه قال :كسانى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبطية ( ثياب كانت تصنع فى مصر ، وتنسب إلى القبط وهم سكان مصر ) كثيفة كانت مما أهداها دحية الكلبى ، فكسوتها امرأتى ، فقال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم : مالك لم تلبس القبطية ؟ قلت : يا رسول الله كسوتها امرأتى ، فقال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مرها فلتجعل تحتها غلالة ( ما يلبس تحت الثوب ) إنى أخاف أن تصف حجم عظامها . ( مسند أحمد وغيره ، والحديث حسنه الألبانى فى الثمر المستطاب وغيره ص ٣١٧- ٣١٩) ، وقال الأرناؤط : حديث محتمل للتحسين انظر مسند احمد حديث ٢١٧٨٦ ).
وقد استدل الشيخ التويجرى من الحديث -عن طريق القياس – على وجوب النقاب . فقال : فأولى من ذلك ( يعنى ستر حجم عظامها) ستر ظاهر بشرتها عنهم ، لأنها كلها عورة بالنسبة إلى نظرهم ، وسواء فى ذلك وجهها وغيره من أعضائها ( الصارم المشهور ص 100 ).
قلت : والحديث يستدل به على أنه يجب على المرأة أن تلبس ملابس واسعة فضفاضة لاتصف أو تحدد حجم عظامها ، وأن يحرم عليها أن تلبس ملابس خفيفة أو شفافة ، تصف أو تحدد حجم جسدها . وقياس وجه المرأة على جسدها ، أراه قياسا بعيدا ، فمن المعلوم فطرة وشرعا أن جسد المرأة يختلف عن وجهها فالمرأة لاتظهر بدنها إلا لزوجها ، حتى محارمها على التأبيد فلايطلعون منها إلا ما يظهر منها غالبا حين عملها فى البيت ونحو ذلك . كما قال ابن عباس فى تفسيره لآيات سورة النور : ولايبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن -الآية( النور: ٣٠ ) قال : كالزينة التى تبديها لهؤلاء من الناس من قرطها وقلادتها وسواريها ، فأما خلاخلها ومعضدتها ونحرها وشعرها فإنما لاتبديه إلا لزوجها ( انظر تفسير القرآن لابن أبى حاتم ٢٥٧٦/٨).
الحديث الثالث والعشرين : عن أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : إياكم والجلوس على الطرقات . فقالوا : ما لنا بد ، إنما هى مجالسنا نتحدث فيها ، قال : فإذا أبيتم إلا المجالس فأعطوا الطريق حقها . قالوا : وما حق الطريق يا رسول الله ؟ قال :غض البصر ، وكف الأذى ، ورد السلام ، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر ( متفق عليه ) . موضع الشاهد : الأمر بغض البصر ولقد اختلف العلماء فى توجيه الأمر بغض البصر . قال الشيخ الألبانى بعد أن ذكر قوله تعالى : قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم …… ( النور : ٣٠) فإنها تشعر بأن فى المرأة شيئا مكشوفا يمكن النظر إليه ، فلذلك أمر الله تعالى بغض النظر عنهن ، وما ذلك غير الوجه والكفين ثم ذكر حديث أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه . قلت : هل ما ذكر الشيخ من الأمر بغض البصر -يخص الوجه والكفين أم يشمل غيرهما ؟ وللحديث بقية والحمد لله رب العالمين