الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ،وبعد.
نواصل حديثنا بإذن الله تعالى عن أدلة الحجاب من القرآن والسنه ،و قد انتهيت بفضل الله تعالى من أدلة القرآن ووصلت في أدلة السنه إلى الحديث التاسع عشر، وهو حديث عائشة رضي الله عنها قالت: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد حتى أكون أنا التي اسأم، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو (متفق عليه). وذكرت أن الحديث يحتج به من يقول بوجوب النقاب ،لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستر أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بردائه.
وقد ترجم البخاري للحديث بقوله باب نظر المرأه إلى الحبشة ونحوهم من غير ريبة.
يقول ابن بطال :وفي هذا الحديث حجة لمن أجاز النظر الى اللعب في الوليمة وغيرها ،وفيه جواز نظر النساء إلى اللهو واللعب، لاسيما الحديثة السن ،فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد عذرها لحداثة سنها، وفيه أنه لا بأس بنظر المرأه الى الرجل من غير ريبة ….ثم قال: وإنما أراد البخاري بهذا الحديث -والله أعلم- الرد لحديث ابن شهاب عن نبهان مولى أم سلمة عن أم سلمة…وفيه أفعمياوان أنتما. وحديث عائشة أصح منه لأن نبهان ليس بمعروف بنقل العلم ولا يروى إلا حديثين أحدهما هذا ،والثاني في المكاتب إذا كان معه ما يؤدي احتجبت منه سيدته .(انظر شرح صحيح البخاري لابن بطال (7/363-364 ) .
قلت :وهل كانت عائشة رضي الله عنها صغيرة ؟ا
إن الإمام النووى يقول إنها كانت صغيرة قبل بلوغها فلم تكن مكلفة.
قلت : وفى هذا نظر ،فإن النبى صلى الله عليه وسلم لم يبن بها إلا بعد بلوغها .يقول العينى:ويرد عليه -على قول الامام النووى_ أن في بعض طرق الحديث أن ذلك كان بعد قدوم وفد الحبشة، وأن قدومهم كان سنة سبع ،ولعائشة يومئذ ست عشرة سنة …. وكان ذلك بعد الحجاب (انظر عمده القاري 20 /217 ).
يقول الحافظ ابن حجر :قوله يسترني بردائه يدل على أن ذلك كان بعد نزول الحجاب، ويدل على جواز نظر المرأه إلي الرجل ،وأجاب بعض من منع بأن عائشة كانت إذ ذاك صغيرة ،وفيه نظر.(انظر فتح الباري 1/550 ).
قلت لكن يرد على الاستدلال بالحديث في وجوب النقاب على غير أمهات المؤمنين ،أن العلماء اتفقوا على أن وجوب ستر جميع البدن بما في ذلك الوجه والكفين في قوله تعالى (وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب) أن الأمر فيه متوجه لأمهات المؤمنين أصالة ولا خلاف في ذلك، إنما الخلاف في دخول غير أمهات المؤمنين في الأمر ، فدخولهن ليس بالأمر الصريح المباشر كما هو الحال لأمهات المؤمنين وإنما هو بالاستدلال غير المباشر، بجامع العلة المذكورة في الآية وذلك بالقياس والعلة هي طهارة القلوب في قوله تعالى: (ذلكم اطهر لقلوبكم وقلوبهن).
الحديث العشرون :عن عائشة رضي الله عنها قالت :لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهو عروس بصفية بنت حي ، جئن نساء الأنصار فأخبرنا عنها ،قالت: فتنكرت وتنقبت فذهبت ،فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عيني فعرفني ،قالت :فالتفت : فأسرعت المشي فأدركني فاحتضننى، فقال: كيف رأيت ؟ قلت: أرسل يهودية وسط يهوديات (سنن ابن ماجه ح 1980).
سند حديث ابن ماجة :حدثنا أبو بدر عباد بن الوليد حدثنا حبان بن هلال حدثنا مبارك بن فضالة عن على بن زيد عن أم محمد عن عائشة رضي الله عنها …..الحديث.
السند فيه ثلاث علل: علي بن زيد بن جدعان ضعيف( انظر ترجمته في تهذيب الكمال 20 /434 ت 4070 المغني في الضعفاء 2/447ت 4265 تقريب التهذيب 1/401 ت 4734 وغيرهم من المراجع)، وقد ضعفه البوصيري في مصباح الزجاجة بعلي بن زيد بن جدعان ( انظر مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجة ح 710 ، 2/118) كما أن في سنده : أم محمد وهي زوجة والد علي بن زيد بن جدعان( انظر تهذيب الكمال 20/ 436 )واسمها أمية بنت عبد الله انظر التكميل لابن كثير 4 /213 -214 ) قال عنها الذهبى : تفرد عنها على بن زيد ابن جدعان (انظر ميزان الاعتدال 9/604ت 10938 ) فهي مجهوله .
وفي السند أيضا مبارك بن فضالة، قال عنه الحافظ ابن حجر :صدوق ويدلس ويسوى (انظر تقريب التهذيب ت 6464).وأخرجه ابن سعد في الطبقات قال :أخبرنا أحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي حدثنا عبد الرحمن بن أبي الرجال عن عبد الله بن عمر ،قال :لما اجتلى النبي صلّى الله عليه وسلم صفية رأى عائشة متنقبة في وسط الناس فعرفها فأدركها فأخذ بثوبها ،فقال :يا شقيراء كيف رأيت ؟قالت :رأيت يهودية بين يهوديات (انظر الطبقات 8/125 ).
والحديث ضعيف للانقطاع بين عبد الرحمن بن أبى الرجال وعبد الله بن عمر ،فهو لم يسمع منه ، وهو ثقة وقيل صدوق وربما أخطأ ويرفع أحاديث عمرة فيجعلها كلها عن عائشة رضي الله عنها ( انظر تهذيب الكمال17/ 88 -91).
وأخرج ابن سعد نحوه : أخبرنا محمد بن عمر حدثنى عبد الله بن أبي يحيى عن ثبيتة بنت حنظلة عن أمها أم سنان الأسلمية قالت: لما نزلنا المدينه لم ندخل منازلنا حتى دخلنا مع صفية منزلها وسمع بها نساء المهاجرين والانصار فدخلن عليها متنكرات فرأيت أربعا من ازواج النبي صلى الله عليه وسلم متنقبات زينب بنت جحش و حفصة وعائشة جويرية….. الحديث (انظر الطبقات الكبرى ٨/١٢٦ !.
واخرجه أيضا ابن سعد في الطبقات عن عطاء بن يسار بسنده، فقال أخبرنا محمد بن عمر حدثني أسامه بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء بن يسار قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من خبير ومعه صفية أنزلها في بيت من بيوت حارثة ابن النعمان فسمع بها نساء الانصار وبجمالها فجئن ينظرن إليها وجاءت عائشة متنقبة حتى دخلت عليها فعرفها ،فلما خرجت خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على إثرها … الحديث (انظر الطبقات الكبرى8/126) .
قلت: وفيه محمد بن عمر الواقدي وهو متروك، وإرسال عطاء ابن يسار.
فالحديث ضعيف سندا كما رأينا (انظر السلسله الضعيفة للألباني وكذلك سنن ابن ماجه 1980،وضعفه الأرناؤوط في سنن ابن ماجه ).
قال التويجرى عن الحديث : والمقصود من حديث عائشة رضي الله عنها….. تستر نساء الصحابة عن الرجال الأجانب وتغطيتهن وجوههن عنهم ،وأن هذا كان مشروعا ولهذا لما جاءت عائشة رضي الله عنها لتنظر إلى صفية جاءت في صورة امرأة أجنبيه لتخفى نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم ،فعرفها النبي صلى الله عليه وسلم بعينيها، ولما انصرفت لحقها فسألها عن صفية ولم ينكر عليها تغطية وجهها والتزيي بزي المرأه الأجنبيه( انظر الصارم المشهور ص 89 ).
قلت :اولا: الحديث ضعيف لا يصلح للاحتجاج به.
ثانيا: الحديث عن نقاب أم المؤمنين عائشة و بعض أمهات المؤمنين اللواتى جئن لرؤية صفية رضي الله عنها ولم يذكر فيه شيء عن ملبس غيرهن. وكون أم المؤمنين عائشة تنكرت بالنقاب فليس المقصود أنها ارتدت النقاب حتى لا تعرف، فالنقاب فرض عليها، وإنما يحمل تنكرها على على غير هيئتها وتغيير زيها المعهود بزي آخر حتى لا يعرفها النبي صلى الله عليه وسلم ، لكنه عرفها من عينيها.
وقوله لم ينكر عليها تغطية وجهها. فكيف ينكر عليها ما هو فرض لازم عليها ؟.
الحديث الحادي والعشرين: عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال قبرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني ميتا -فلما فرغنا ، انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وانصرفنا معه ،فلما حاذى بابه وقف، فإذا نحن بأمرأة مقبلة، قال: أظنه عرفها، فلما ذهبت إذا هي فاطمة عليها السلام فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم :ما اخرجك يا فاطمة من بيتك؟ قالت : أتيت يارسول الله أهل هذا البيت ،فرحمت إليهم ميتهم أو عزيتهم به ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم :فلعلك بلغت معهم الكدى ؟(المقابر)،قالت :معاذ الله،وقد سمعتك تذكر فيها ما تذكر .
قال :لو بلغت معهم الكدى ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك( سنن أبى داود والنسائى و مسند أحمد وغيرهم ).
قلت :الحديث مداره على ربيعة بن سيف المعافرى:ابن ماتع، قال في تقريب التهذيب صدوق له مناكير( ت 1906). قال البخاري عنده مناكير وقال النسائي ليس به بأس وقال الدارقطني مصري صالح وذكره ابن حبان في الثقات وقال يخطئ كثيرا وقال ابن يونس في أحاديثه مناكير وقال العجلي ثقه وقال البخاري في الاوسط روى أحاديث لا يتابع عليها وقال النسائى في السنن ضعيف (انظر تهذيب التهذيب 3/ 255 256).
قلت :وقد تفرد برواية هذا الحديث وحاله لا يحتمل تفرده ،والحديث اخرجه ابن حبان ح 3177 وابن الجوزي في العلل المتناهيه 2/903 وقال: هذا حديث لا يثبت وأورده من طريق فيها متابع لربيعة بن سيف المعافري وهو شرحبيل بن شريك ، لكن فيها مجاهيل فلا تصلح كشاهد يقوي رواية المعافري، وصححه الحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي مع أن ربيعة بن سيف ابن مانع لم يخرج له الشيخان ولا أحدهما. و ضعف الحديث النسائي في السنن وقال ربيع ضعيف ح 1880 ،والارناؤوط في مسند احمد ح6574، والألباني في التعليقات الحسان ح 3167 وسنن ابي داود ح 560 وفي الضعيف 14 /131 قال هو منكر جدا عندي .
قلت :ومتن الحديث فيه نكارة لهذا الوعيد الشديد بعدم دخولها الجنة لو زارت المقابر ،وزيارة للنساء للمقابر فيها خلاف بين اهل العلم والراجح جوازها بضوابط، لعلي أعود إلى تحريرها بإذن الله تعالى .
لذا فإن من حسن الحديث لجأ إلى تأويله ، لكن الحديث كما رأيناه منكرا. وللحديث بقية والحمد لله رب العالمين