الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خير المرسلين ، وبعد: تكلمت فى الحلقات السابقة عن تعريف المعازف والأحاديث الواردة فيها ، وأجبت عن النقد الموجه لحديث هشام بن عمار عن المعازف فى صحيح البخارى سنداً ومتناً ،وعن بعض الشبهات المثارة حول المعازف ،فى نقاط كالتالى :
1- القول بعدم الإتفاق على معنى كلمة المعازف .
2- القول بضعف دلالة الإقتران .
3- القول أن الإستحلال هو اعتقاد حل ما حرمه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم .
4- القول أن التحريم فى الحديث لإجتماع المذكورات الأربعة فيه ( الحر ،والحرير ، والخمر ، والمعازف ) .
5- القول بأن الوعيد- فى الحديث- على شرب الخمر ، والمعازف تابعة له .
6- القول بأن الدف من المعازف ، وقد جوزه المشرع ، وهذا يعارض حرمة المعازف .
7- القول أن المشرع أباح الغناء للنساء ، وغناؤهن أشد تأثيراً فى النفس من المعازف .
8- القول أن الأصل فى الأشياء الإباحة ، والمعازف من ذلك .
9- القول أنه لم يكن من المعازف فى زمن النبى صلى الله عليه وسلم إلا الدف فقط ،ولذا جوّزه النبي صلى الله عليه وسلم.
10- القول أن الكلام عن المعازف هو مجرد إخبار عن علامات الساعة وليس تشريعاً .
11- القول بأن النبى صلى الله عليه وسلم مدح صوت أبى موسى الأشعرى رضى الله عنه فى قراءة القرآن ، وقال له : لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داوود ، ولو كان المزمار حراماً ماشبّه به النبى صلى الله عليه وسلم تلاوة القرآن .
12- القول بأن فريقاً من السلف يميل إلى الإستماع كالحسن البصرى ، وفريقاً لايميل إليه كالشعبى .
13- القول بأن المعازف حلال مالم تثر الغريزة الجنسية .
14- القول بجواز الغناء والمعازف ،استدلالاً من حديث عائشة رضى الله عنها عن غناء جاريتين من الأنصار أمام النبى صلى الله عليه وسلم .
15- الاستدلال من حديث ابن عمر رضى الله عنهما وصوت مزمار الراعي، على جواز المزمار .
واستأنف بإذن الله تعالى – الرد على شبهات المبيحين للمعازف :
16- عن بريدة الأسلمى رضى الله عنه قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بعض مغازيه ، فلما انصرف ، جاءت جارية سوداء ، فقالت : يارسول الله إنى كنت نذرت إن ردك الله سالما أن أضرب بين يديك بالدف وأتغنى ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كنت نذرت فاضربى ، وإلا فلا فجعلت تضرب ، فدخل أبو بكر رضى الله عنه وهى تضرب ، ثم دخل على رضى الله عنه وهى تضرب ، ثم دخل عثمان رضى الله عنه وهى تضرب ، ثم دخل عمر رضى الله عنه فألقت الدف تحت إستها(مؤخرتها) ، ثم قعدت عليه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الشيطان ليخاف منك يااعمر ، إنى كنت جالساً وهى تضرب فدخل أبو بكر وهى تضرب ، ثم دخل على وهى تضرب ثم دخل عثمان وهى تضرب ، فلما دخلت أنت ياعمر ألقت الدف ( الترمذى وأحمد وغيره ، صححه الألبانى فى الصحيحين ح 1609 ، ح 2261 ، وقال الأرناؤط في مسند أحمد : إسناده قوى )
يقول الشيخ الألبانى : من المعلوم أن الدف من المعازف المحرمة فى الإسلام ، والمتفق على تحريمها عند الأئمة الأعلام كالفقهاء الأربعة وغيرهم …. ولايحل منها إلا إلا الدف وحده فى العرس والعيدين ، فإذا كان كذلك ، فكيف أجاز النبى صلى الله عليه وسلم لها أن تفى بنذرها ؟ ولانذر فى معصية الله تعالى ؟
والجواب – والله أعلم – لما كان نذرها مقرونا بفرحها بقدومه صلى الله عليه وسلم من الغزو سالماً ، ألحقه صلى الله عليه وسلم بالضرب على الدف فى العرس والعيد ، ومما لاشك فيه أن الفرح بسلامته صلى الله عليه وسلم أعظم – بما لايقاس – من الفرح فى العرس والعيد ، ولذلك يبقى هذا الحكم خاصا به صلى الله عليه وسلم لايقاس به غيره ، لأنه من باب قياس الحدّادين على الملائكة ، كما يقول بعضهم ، وقد ذكر هذا الجمع الإمام الخطابى فى معالم السنن ، والعلامة صديق حسن خان فى الروضة الندية . ( انظر السلسلة الصحيحة 5/ 232- 233) .
يقول الخطابى : ضرب الدف ليس مما يعد فى باب الطاعات التى يعلق بها النذور وأحسن حاله أن يكون من باب المباح ، غير أنه لما اتصل بإظهار الفرح بسلامة مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة من بعض غزواته ، وكانت فيه مساءة الكفار وإرغام المنافقين ،صار فعله كبعض القرب التى من نوافل الطاعات ، ولهذا أبيح ضرب الدف واستحب فى النكاح لما فيه من الإشاعة بذكره والخروج به عن معنى السفاح الذى هو استسرار به واستتار عن الناس فيه، والله أعلم ( معالم السنن 4/60) .
لذلك فقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن نذر هذه المرأة وضربها بالدف واقعة عين مقصورة على الفرح بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم سالماً من الغزو ، خاصة أن هذه المرأة ضربت بالدف عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وبحضور الصحابة ، فذلك خصوصية للنبى صلى الله عليه وسلم ( انظر السلسلة الصحيحة ح 1609 ، انظر تحريم آلات الطرب صــ 124)
– قلت : لوكان الضرب بالدف مكروها -فضلا عن يكون محرماً – لما جوز رسول الله صلى الله عليه وسلم للمرأة أن توفى بنذرها .
لحديث عائشة رضى الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لانذر فى معصية ، وكفارته كفارة يمين ( الترمذى وغيره ، صححه الألبانى فى الإرواء ح 2590 ، والأرناؤوط فى مسند أحمد ح 26098 ) .
أقوال الأئمة الأربعة في المعازف :
أولاً: المذهب الحنفى :يرى علماء الحنفية حرمة الإستماع لآلات المعازف ، ومذهب الحنفية في ذلك من أشد المذاهب .
يقول ابن القيم : مذهب أبى حنيفة فى ذلك من أشد المذاهب ، وقوله فيه أغلظ الأقوال ، وقد صرح أصحابه بتحريم سماع الملاهى كلها ، كالمزمار والدف حتى الضرب بالقضيب ( آلة إيقاع عربية قديمة من المعدن يوقع عليه بأداة صلبة ) وصرحوا بأنه معصية يوجب الفسق وترد به الشهادة ( إغاثة اللهفان 1/405) .
ويقول أبو بكر الرازى الحنفى : استماع الملاهى وسماع صوت الملاهى كلها حرام ، فإن سمع بغتة فهو معذور ، ثم يجتهد أن لايسمع مهما أمكنه ( انظر تحفة الملوك ص 238 ، البحر الرائق شرح كنز الدقائق 8/ 215 ، الدر المختار ص 265).
ثانياً : المذهب المالكى : سئل الإمام مالك عما يترخص فيه بعض أهل المدينة من الغناء ، فقال : إنما يفعله عندنا الفساق .
وقال ابن القاسم : كان مالك يكره الدفاف والمعازف كلها فى العرس، بل قال إذا اشترى جارية فوجدها مغنية ، كان له أن يردها بالعيب . ( انظر :ابن الجوزى فى تلبيس إبليس 244 ، المدونة 3/ 398 ، إكمال المعلم 3/ 306) .
ويقول ابن رشد المالكى : ولايجوز تعمد حضور شئ من اللهو واللعب ولامن الملاهى المطربة كالطبل والزمر وماكان فى معناه ( انظر المقدمات الممهدات 3/ 462) .
ثالثاً : المذهب الشافعى : وأما الملاهى فعلى ثلاثة أضرب : حرام ومكروه وحلال ، فأما الحرام : فالعود والطنبور (آلة من آلات العزف ذات عنق وأوتار ) والمعزفة والطبل والمزمار وما ألهى بصوت مطرب إذا انفرد…
وكان بعض أصحابنا يخص العود من بينها ولايحرمه – وهذا لاوجه له ، لأنه أكثر الملاهى طربا، وأشغلها عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة …
وأما المكروه ، فما زاد به الغناء طرباً ، ولم يكن بانفراده مطرباً ، كالفسح والقضيب ، فيكره مع الغناء لزيادة إطرابه ، ولايكره إذا انفرد لعدم إطرابه ، وأما المباح : فما خرج عن آلة الإطراب ، إما إلى إنذار كالبوق ، وطبل الحرب ، أو لمجمع وإعلان كالدف فى النكاح …….
ثم قال عن الدف فى النكاح أنه بحسب أحوال الأماكن والأزمنة ، فقال : فعم بعضهم الإطلاق وخص بعضهم فى البلدان التى لايتناكر أهلها فى المناكح كالقرى والبوادى ، ويكره فى غيرها ، فى مثل زماننا ، لأنه قد عدل به إلى السخف والسفاهة . ( انظر الحاوى الكبير 17/191- 192).
ويقول النووى : أن يغنى ببعض آلات الغناء مما هو من شعار شاربى الخمر ، وهو مطرب كالطنبور والعود والصنج ، وسائر المعازف والأوتار فيحرم استعماله ، والسماع إليه .
وابن الصلاح ( الشافعى ) : لما سئل عن رجل مصر على استماع المعازف فيجيب : ……. وهذا السماع المعتاد حرام غليظ عند العلماء ، وسائر من يقتدى به فى أمور الدين ، ومن نسب حاله إلى مذهب الشافعى أو أحد من أئمة الصحابة – رضى الله عنه وعنهم- فقد قال باطلاً .
( انظر روضة الطالبين 11/ 228 ، الشرح الكبير للرافعى 13/ 15 ، فتاوى ابن الصلاح 2/ 498) .
رابعا : المذهب الحنبلى : يقول ابن قدامة :فصل فى الملاهى ، وهى على ثلاثة أضرب ، محرم ، وهو ضرب الأوتار والنايات والمزامير كلها والعود والطنبور والمعزفة والرباب ونحوها ،فمن أدام استماعها ردت شهادته …..
وضرب مباح وهو الدف … وذكر أصحابنا وأصحاب الشافعى أنه مكروه فى غير النكاح ……
ثم رجح القول بالجواز فى غير النكاح كالأعياد والعودة من السفر……
وأما الضرب ( بالدف) به للرجال فمكروه على كل حال ( انظر المغنى لابن قدامة 14/ 157- 160) .
ويقول ابن مفلح الحنبلى : يحرم مزمار وطنبور ونحوهما ، نص عليه ، فمن أدام استعمالها ردت شهادته وكذا عود وجنك ( المبدع فى شرح المقنع 8 / 311) .
وقد نقلت أولا أقوال المذاهب الأربعة فى المعازف ، لأن هناك من يقول إن المذاهب الفقهية الأربعة منهم يجيز المعازف .
بل قد نقل الإجماع على تحريم المعازف أكثر من واحد من أهل العلم ، على سبيل المثال : أبو العباس القرطبى المالكى :
أما المزامير والأوتار والكوبة – وهو طبل طويل ضيق الوسط ذو رأسين – فلايختلف فى تحريم سماعه ، ولم أسمع عن أحد ممن يعتبر قوله من السلف وأئمة الخلف من يبيح ذلك ( انظر كشف القناع عن حكم الوجد والسماع ص 72)
ابن الصلاح الشافعى : فليعلم أن الدف والشبابة والغناءإذا اجتمعت فاستماع ذلك حرام عند أئمة المذاهب وغيرهم من علماء المسلمين ، ولم يثبت عن أحد ممن يعتد بقوله فى الإجماع والخلاف أنه أباح هذا السماع ،والخلاف المنقول عن بعض أصحاب الشافعى إنما نقل فى الشبابة منفردا ، والدف منفردا ، فمن لايتأمل ربما اعتقد فيه خلافا بين الشافعيين فى هذا السماع الجامع هذه الملاهى ، وذلك وهم ، فإذن هذا السماع غير مباح بإجماع أهل الحل والعقد من المسلمين ( انظر مجموع رسائل ابن رجب 2/ 444) .
وقال ابن حجر الهيتمى ( الشافعى ) : الأوتار والمعازف كالطنبور والعود والصنج – أى ذات الأوتار …..
وغير ذلك من الآلات المشهورة عند أهل اللهو والسفاهة والفسوق ، وهذه كلها محرمة بلا خلاف ، ومن حكى فيه خلافا فقد غلط أو غلب عليه هواه ، حتى أصمه وأعماه ومنعه هداه وزل به عن سنن تقواه ( انظر كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع صـ118) ، وللحديث بقية والحمد لله رب العالمين .